الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال الشوكاني: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1)}{الفلق} الصبح، يقال: هو أبين من فلق الصبح.وسمي فلقًا، لأنه يفلق عنه الليل.وهو فعل بمعنى مفعول.قال الزجاج: لأن الليل ينفلق عنه الصبح، ويكون بمعنى مفعول.يقال: هو أبين من فلق الصبح، ومن فرق الصبح، وهذا قول جمهور المفسرين، ومنه قول ذي الرّمة:وقول الآخر: وقيل: هو سجن في جهنم.وقيل: هو اسم من أسماء جهنم.وقيل: شجرة في النار.وقيل: هو الجبال والصخور، لأنها تفلق بالمياه، أي: تشقق.وقيل: هو التفليق بين الجبال؛ لأنها تنشق من خوف الله.قال النحاس: يقال لكل ما اطمأنّ من الأرض فلق، ومنه قول زهير: والراكس: بطن الوادي، ومثله قول النابغة: وقيل: هو الرحم تنفلق بالحيوان.وقيل: هو كل ما انفلق عن جميع ما خلق الله من الحيوان والصبح والحبّ والنوى، وكلّ شيء من نبات، وغيره قاله الحسن، والضحاك.قال القرطبي: هذا القول يشهد له الانشقاق، فإن الفلق الشقّ، فلقت الشيء فلقًا: شققته، والتفليق مثله، يقال فلقته، فانفلق وتفلق، فكلّ ما انفلق عن شيء من حيوان، وصبح، وحبّ، ونوى، وماء فهو فلق، قال الله سبحانه: {فَالِقُ الإصباح} [الأنعام: 96] وقال: {فَالِقُ الحب والنوى} [الأنعام: 95]. انتهى.والقول الأوّل أولى؛ لأن المعنى، وإن كان أعمّ منه وأوسع مما تضمنه لكنه المتبادر عند الإطلاق.وقد قيل في وجه تخصيص الفلق الإيماء إلى أن القادر على إزالة هذه الظلمات الشديدة عن كلّ هذا العالم يقدر أيضًا أن يدفع عن العائذ كل ما يخافه، ويخشاه.وقيل: طلوع الصبح كالمثال لمجيء الفرح؛ فكما أن الإنسان في الليل يكون منتظرًا لطلوع الصباح.كذلك الخائف يكون مترقبًا لطلوع صباح النجاح، وقيل: غير هذا مما هو مجرّد بيان مناسبة ليس فيها كثير فائدة تتعلق بالتفسير.{مِن شَرّ مَا خَلَقَ} متعلق بـ: {أعوذ} أي: من شرّ كلّ ما خلقه سبحانه من جميع مخلوقاته، فيعمّ جميع الشرور.وقيل: هو إبليس وذرّيته.وقيل: جهنم، ولا وجه لهذا التخصيص، كما أنه لا وجه لتخصيص من خصّص هذا العموم بالمضارّ البدنية.وقد حرّف بعض المتعصبين هذه الآية مدافعة عن مذهبه، وتقويمًا لباطله، فقرءوا بتنوين: {شرّ} على أن: (ما) نافية.والمعنى: من شرّ لم يخلقه.ومنهم عمرو بن عبيد، وعمرو بن عائذ.{وَمِن شَرّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} الغاسق الليل.والغسق الظلمة.يقال غسق الليل يغسق إذا أظلم.قال الفراء: يقال غسق الليل، وأغسق إذا أظلم، ومنه قول قيس بن الرقيات: وقال الزجاج: قيل لليل غاسق؛ لأنه أبرد من النهار، والغاسق البارد، والغسق البرد، ولأن في الليل تخرج السباع من آجامها، والهوامّ من أماكنها، وينبعث أهل الشرّ على العبث والفساد، كذا قال، وهو: قول بارد، فإن أهل اللغة على خلافه، وكذا جمهور المفسرين ووقوبه: دخول ظلامه، ومنه قول الشاعر: أي: دخل العذاب عليهم.ويقال وقبت الشمس: إذا غابت.وقيل: الغاسق الثريا.وذلك أنها إذا سقطت كثرت الأسقام والطواعين، وإذا طلعت ارتفع ذلك، وبه قال ابن زيد.وهذا محتاج إلى نقل عن العرب أنهم يصفون الثريا بالغسوق.وقال الزهري: هو الشمس إذا غربت، وكأنه لاحظ معنى الوقوب، ولم يلاحظ معنى الغسوق.وقيل: هو القمر إذا خسف، وقيل: إذا غاب. وبهذا قال قتادة، وغيره.واستدلوا بحديث أخرجه أحمد، والترمذي، وابن جرير، وابن المنذر، وأبو الشيخ في العظمة، والحاكم وصححه، وابن مردويه عن عائشة قالت: نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا إلى القمر لما طلع فقال: «يا عائشة استعيذي بالله من شرّ هذا، فإن هذا هو الغاسق إذا وقب»قال الترمذي: بعد إخراجه حسن صحيح، وهذا لا ينافي قول الجمهور؛ لأن القمر آية الليل، ولا يوجد له سلطان إلاّ فيه، وهكذا يقال في جواب من قال: إنه الثريا.قال ابن الأعرابي في تأويل هذا الحديث: وذلك أن أهل الريب يتحينون وجبة القمر.وقيل الغاسق: الحية إذا لدغت.وقيل الغاسق: كل هاجم يضرّ كائنًا ما كان، من قولهم غسقت القرحة: إذا جرى صديدها.وقيل: الغاسق هو السائل، وقد عرّفناك أن الراجح في تفسير هذه الآية هو ما قاله أهل القول الأوّل، ووجه تخصيصه أن الشرّ فيه أكثر، والتحرز من الشرور فيه أصعب، ومنه قولهم: الليل أخفى للويل.{وَمِن شَرّ النفاثات في العقد} النفاثات هنّ السواحر، أي: ومن شر النفوس النفاثات، أو النساء النفاثات، والنفث النفخ، كما يفعل ذلك من يرقي ويسحر.وقيل: مع ريق.وقيل: بدون ريق، والعقد جمع عقدة، وذلك أنهنّ كن ينفثن في عقد الخيوط حين يسحرن بها، ومنه قول عنترة: وقول متمم بن نويرة: قال أبو عبيدة: النفاثات هيّ: بنات لبيد الأعصم اليهودي، سحرن النبيّ صلى الله عليه وسلم.قرأ الجمهور: {النفاثات} جمع نفاثة على المبالغة.وقرأ يعقوب، وعبد الرحمن بن ساباط، وعيسى بن عمر: {النافثات} جمع نافثة.وقرأ الحسن: {النفاثات} بضم النون.وقرأ أبو الربيع: {النفثات} بدون ألف.{وَمِن شَرّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} الحسد: تمني زوال النعمة التي أنعم الله بها على المحسود.ومعنى {إذا حسد}: إذا أظهر ما في نفسه من الحسد، وعمل بمقتضاه، وحمله الحسد على إيقاع الشرّ بالمحسود.قال عمر بن عبد العزيز: لم أر ظالمًا أشبه بالمظلوم من حاسد، وقد نظم الشاعر هذا المعنى فقال: ذكر الله سبحانه في هذه السورة إرشاد رسوله صلى الله عليه وسلم إلى الاستعاذة من شرّ كل مخلوقاته على العموم، ثم ذكر بعض الشرور على الخصوص مع اندراجه تحت العموم لزيادة شرّه، ومزيد ضرّه، وهو الغاسق، والنفاثات، والحاسد، فكأن هؤلاء لما فيهم من مزيد الشرّ حقيقون بإفراد كل واحد منهم بالذكر.وقد أخرج ابن مردويه عن عمرو بن عبسة قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ الفلق} فقال: «يا ابن عبسة أتدري ما الفلق؟» قلت: الله ورسوله أعلم، قال: «بئر في جهنم» وأخرجه ابن أبي حاتم من قول عمرو بن عبسة غير مرفوع.وأخرج ابن مردويه عن عقبة بن عامر قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقرأ: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ الفلق} هل تدري ما الفلق؟ باب في النار إذا فتحت سعرت جهنم». وأخرج ابن مردويه، والديلمي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله عزّ وجلّ: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ الفلق} فقال: «هو سجن في جهنم يحبس فيه الجبارون والمتكبرون، وإن جهنم لتتعوّذ بالله منه» وأخرج ابن جرير عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «الفلق جبّ في جهنم» وهذه الأحاديث لو كانت صحيحة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لكان المصير إليها واجبًا، والقول بها متعينًا.وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: الفلق سجن في جهنم، وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال: الفلق الصبح، وأخرج ابن جرير عن ابن عباس مثله.وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه قال: الفلق الخلق، وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، وابن مردويه عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله: {وَمِن شَرّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} وقال: النجم هو الغاسق، وهو الثريا.وأخرجه ابن جرير، وابن أبي حاتم من وجه آخر عنه غير مرفوع، وقد قدّمنا تأويل هذا، وتأويل ما ورد أن الغاسق القمر.وأخرج أبو الشيخ عنه أيضًا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا ارتفعت النجوم رفعت كل عاهة عن كل بلد». وهذا لو صح لم يكن فيه دليل على أن الغاسق هو النجم أو النجوم.وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن ابن عباس: {وَمِن شَرّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} قال: الليل إذا أقبل.وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس: {وَمِن شَرّ النفاثات في العقد} قال: الساحرات.وأخرج ابن جرير عنه في الآية قال: هو ما خالط السحر من الرقي.وأخرج النسائي، وابن مردويه عن أبي هريرة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر، ومن سحر فقد أشرك، ومن تعلق شيئًا وكل إليه» وأخرج ابن سعد، وابن ماجه، والحاكم، وابن مردويه عن أبي هريرة قال: جاء النبيّ صلى الله عليه وسلم يعودني فقال: «ألا أرقيك برقية رقاني بها جبريل؟» فقلت: بلى بأبي أنت وأمي، قال: «بسم الله أرقيك، والله يشفيك من كل داء فيك مِن شَرّ النفاثات في العقد، وَمِن شَرّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ» فرقى بها ثلاث مرّات.وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله: {وَمِن شَرّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} قال: نفس ابن آدم وعينه. اهـ. .قال صاحب روح البيان: تفسير سورة الفلق:خمس آيات مدينة.{قل أعوذ برب الفلق}الفلق الصبح لأنه يفلق عنه الليل ويفرق فهو من باب الحذف والإيصال فعل بمعنى مفعول كالصمد والقبض بمعنى المصمود إليه والمقبوض كما مر فإن كل واحد من المفلوق والمفلوق عنه مفعول وذلك إنما يتقق بأن يكون الشيء مستورًا ومحجوبًا بآخر ثم يشقق الحجاب الساتر عن وجه المستور ويزول فيظهر ذلك المستور وينكشف بسبب زواله وذلك الحجاب المشقق مفلوق والمحجوب المنكشف بزواله مفلوق عنه والصبح صار مفلوقًا عنه بإزالة ما عليه من ظلمة الليل يقال في المثل هو أبين من فلق الصبح والفلق أيضًا الخلق لأن الممكنات بأسرها كانت أعيانًا ثابتة في علم الله مستورة تحت ظلمة العدم فالله تعالى فلق تلك الظلمات بنور التكون والإيجاد فأظهر ما في علمه من المكونات فصارت مفلوقًا عنها وفي تعليق العياذ باسم الرب المضاف إلى الفلق المبنئ عن النور عقيب الظلمة والسعة بعد الضيق والفتق بعد الرتق عدة كريمة بإعادة العائد مما يعوذ منه وإنجائه منه وتقوية لرجائه لتذكير بعض نظائره ومزيد ترغيب له في الجد والاعتناء بقرع باب الالتجاء إليه والاعاذة بربه قالوا إذا طلع الصبح تتبدل الثقلة بالخفة والغم بالسرور روى أن يوسف عليه السلام لما ألقى في الجب وجعت ركبته وجعًا شديدًا فبات ليلته ساهرًا فلما قرب طلوع الصبح نزل جبريل بإذن الله تعالى يسأله ويأمره بأن يدعو ربه فقال يا جبريل ادع أنت وأؤمن فدعا جبريل وأمن يوسف عليهما السلام، فكشف الله تعالى ما كان به من الضر فلما طاب وقت يوسف قال يا جبريل وأنا أدعو أيضًا وتؤمن أنت فسأل يوسف ربه أن يكشف الضر عن جميع أهل البلاء في ذلك الوقت فلا جرم ما من مريض إلا ويجد نوع خفة في آخر الليل وعن بعض الصحابة رضي الله عنهم إنه قدم الشأم فرأى دور أهل الذمة وما هم فيه من خفض العيش وما وسع عليهم به من دنياهم فقال لا أبالي أليس من ورائهم الفلق فقيل وما الفلق قال بيت في جهنم اذا فتح صاح جميع أهل النار {مِن شَرِّ مَا خَلَقَ}أي من شر ما خلقه من الثقلين وغيرهم كائنًا ما كان من ذوات الطبائع والاختيار فيشمل جميع الشرور والمضار بدنية كانت أو غيرها من ضرب وقتل وشتم وعض ولدغ وسحر ونحوها وءِّافة الشر إليه لاختصاصه بعالم الخلق المؤسس على امتزاج المواد المتباينة وتفاعل كيفياتها المتضادة المستنبعة للكون والفساد وإما عالم الأمر فهو خير محض منزه عن الشوائب الشر بالكلية وقرأ بعض المعتزلة القائلين بأن الله لم يخلق الشر من شر بالتنوين ما خلق على النفي وهي قرأء مردودة مبنية على مذهب باطل الله خالق كل شيء {وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ} تخصيص لبعض الشرور بالذكر مع اندارجه فيما قبله لزيادة مساس الحاجة إلى الاستعاذة منه لكثرة وقوعه ولأن تعيين المستعاذ أدل على الاعتناء بالاستعاذة، وادعى إلى الإعاذة أي ومن شر ليل مختلط ظلامه مشتد وذلك بعد غيبوبة الشفق من قوله تعالى: [الإسراء: 78-3] {إِلَى غَسَقِ الَليْلِ} أي اجتماع ظلمته وفي القاموس الغسق محركة ظلمة أول الليل وغسق الليل غسقًا ويحرك اشتدت ظلمته فالغاسق الليل المظلم كما في المفردات وأصل الغسق الامتلاء يقال غسقت العين إذا امتلأت دمعًا أو هو السيلان وغسق العين سيلان دمعها وإضافة الشر إلى الليل لملابسته له بحدوثه فيه وتنكيره لعدم شمول الشر لجميع أفراده ولا لكل أجزائه {إذا وقب} الوقب النقرة في الشيء كالنقرة في الخرة يجتمع فيها الماء ووقب إذا دخل في وقب ومته وبت الشمس إذا غابت ووقب الظلام دخل والمعنى إذا دخل ظلامه في كل شيء وتقييده به لأن حدوث الشرفيه أكثر والتحرز منه أصعب وأعسر ولذلك قيل الليل أخفى للويل وقيل: أغدر الليل لأنه 5ا أظلم كثر فيه الغدر والغوث يقل في الليل ولذا لو شهر إنسان بالليل سلاحًا فقتله المشهر عليه لا يلزمه قصاص ولو كان نهارًا يلزمه لأنه يوجد فيه الغوث والحاصل إنه ينبعث أهل الحرب في الليل وتخرج عفاريت الجن والهوام والمؤذيات ونهى رسول الله عليه السلام، عن السير في أول الليل وأمر بتغطية الأواني وأغلاق الأبواب وإيكاء الأسقية وضم الصبيان وكل ذلك للحذر من الشر والبلاء وقيل الغاسق القمر إذا امتلأ ووقوبه دخوله في الخسوف واسوداده لما روى عن عائشة رضي الله عنها، إنها قالت أخذ رسول الله على السلام بيدي فأشار إلى القمر فقال تعوذي بالله من شر هذا فإنه الغاسق إذا وقب وشره الذي يتقى ما يكون في الأبدان كآفات التي تحدث بسببه ويكون في الأديان كالفتنة التي بها افتتن من عبد وعبد الشمس وقيل التعبير عن القمر بالغاسق لأن جرمه مظلم وإنما يستنير بضوء الشمس ووقوبه المحاق في آخر الشهر والمنجمون يعدونه نحسًا ولذلك لا تشتغل السحرة بالسحر المورث للتمريض إلا في ذلك قيل وهو المناسب لسبب النزول وقيل الغاسق الثريا ووقوبها سقوطها لأنها إذا سقطت كثرت الأمراض والطواعين وإذا طلعت قلت الأمراض والآلام وقيل هو كل شر يعترى الإنسان ووقوبه هجومه ويجوز أن يراد بالغاسق الأسود من الحياة ووقبه ضربه ولسبه وفي (القاموس) هو الذكر إذا وقام هو منقول عن ابن عباس رضي الله عنهما وجماعة.{وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ}من النفث وهو شبه النفخ يكون في الرقية ولا ريق معه فإن كان معه ريق فهو التفل يقال منه نفث الراقي ينفث وينفث بالضم ولكسر والنفاثات بالشديد يراد منها تكرار الفعل والاحتراف به والنفاثات تكون للدفعة الواحدة من الفعل ولتكراره أيضًا {فِى الْعُقَدِ} جمع عقدة وهي ما يعده الساحر على وتر أو حبل أو شعر وهو ينفث ويرقى وأصله من العزيمة ولذلك يقال لها عزيمة كما يقال لها عقدة ومنه قيل للساحر معقد والمعنى ومن شر النفوس أو النساء السواحر اللاتي يعقدن عقدًا في خيوط وينفثن عليها وتعريفها إما للهد أو للإيذان بشمول الشر لجميع أفرادهن وتمحضهن فيه وتخصيصه بالذكر لما روى ابن عباس رضي الله عنهما وعائشة رضي الله عنها إنه كان غلام من اليهود يخدم النبي عليه السلام، وكان عنده أسنان من مشطه عليه السلام، فأعطاها اليهود فسحروه عليه السلام، فيها ولذا ينبغي أن يقطع الظفر بعد التقليم وكذا الشعر إذا أسقط من اللحية والرأس نصفين أو أكثر لئلا يسحر به أحد وتولاه لبيد بن أعصم اليهودي وبناته وهن النفاثات في العقد فدفنها في بئر أريس وفي (عين المعاني) في بئر لبني زريق تسمى ذروان فمرض النبي عليه السلام روى إنه لبث فيه ستة أشهر فنزل جبرائيل بالمعوذتين بكسر الواو كما في (القاموس) وأخبره بموضع السحر وبمن سحره وبم سحره فأرسل عليه السلام عليًا والزبير وعمارًا رضي الله عنهم، فنزحوا ماء البئر فكأنه نقاعة الحناء ثم رفعوا راعونة البئر وهي الصخرة التي توضع في أسفل البئر فأخرجوا من تحتها الأسنان ومعها وترقد عقد فيه إحدى عشرة عقدة مغرزة بلأبر فجاؤوا بها النبي عليه السلام، فجعل يقرأ المعوذتين عليها فكان كلما قرأ آية نحلت عقدة ووجد عليه السلام، خفة حتى انحلت العقدة الأخيرة عند تمام السورتين فقام عليه السلام، كأنما أنشط من عقال وجعل جبرائيل يقول بسم الله أرقيك والله يشفيك من كل شيء يؤذيك من عين وحاسد فلذا جوز الاسترقاء بما كان من كلام الله وكلام رسوله لا بما كان بالعبرية والسريانية والهندية فإنه لا يحل اعتقاده فقالوا يا رسول الله أفلا نقتل الخبيث فقال عليه السلام إما أنا فقد عافاني الله وأكره إن أثير على الناس شرًا قالت عائشة رضي الله عنها ما غضب النبي عليه السلام، غضبًا ينتقم لنفسه قط إلا أن يكون شيئًا هو الله فيغضب الله وينتقم وقيل المراد بالنفث في العقد إبطال عزائم الرجال بالحيل مستعار من تليين العقدة بنفث الريق ليسهل حلها فعلى هذا فالنفاثات هي جنس النساء اللاتي شأنهن أن يغلبن علي الرجال ويحولنهم عن آرائهم بأنواع المكر والحيلة فمعنى الآية إن النساء لأجل استقرار حبهن في قلوب الرجال يتصرفن فيهم ويحولنهم من رأي إلى رأي فأمر الله تعالى له رسوله بالتعوذ من شرهن.اعلم أن السحر تخييل لا أصل له عند المعتزلة وعند الشافعي تمريض بما يتصل به كما يخرج من فم المتثائب ويؤثر في المقابل وعندنا سرعة الحركة ولطافة الفعل فيما خفي فهمه وقيل طلسم يبني على تأثير خصائص الكواكب كتأثير الشمس في زئبق عصى سحرة فرعون والمعتزلة أنكروا صحة الرواية المذكورة وتأثير السحر فيه عليه السلام وقالوا كيف يمكن القول بصحتها والله تعالى يقول والله يعصمك من الناس وقال ولا يفلح الساحر حيث أتى ولأن تجويزه يفضي إلى القدح في النبوة ولأن الكفار كانوا يعيرونه بأنه مسحور فلو وقعت هذه الواقعة لكان الكفار صادقين في تلك الدعوى ولحصل فيه عليه السلام ذكر العيب ومعلوم أن ذلك غير جائز وقال أهل السنة صحة القصة لا تستلزم صدق لكفرة في قولهم إنه مسحور وذلك لأنهم كانوا يريدون بكونه مسحورًا إنه مجنون أزيل عقله بسبب السحر فلذلك ترك دين آبائه فأما أن يكون مسحورًا بألم يجده في بدنه فذلك مما لا ينكره أحد وبالجملة فالله تعالى ما كان يسلط عليه لا شيطانًا ولا أنسيًا وجنيًا يؤذيه فيما يتعلق بنبوته وعقله وإما الإضرار به من حيث بشريته وبدنه فلا بعد فيه وتأثير السحر فيه عليه السلام، لم يكن من حيث إنه نبي وإنما كان في بدنه من حيث إنه إنسان وبشر فإنه عليه السلام يعرض له من حيث بشريته ما يعرض لسائر البشر من الصحة والمرض والموت والأكل والشرب ودفع الفلات وتأثير السحر فيه من حيث بشريته لا يقدح في نبوته وإنما يكون قادحًا فيها لو وجد للسحر تأثير في أمر يرجع إلى النبوة ولم يوجد ذلك كيف والله تعالى يعصمه من يضره أحد فيما يرجع إليها كما لم يقدح كسر رباعيته يوم أحد فيما ضمن الله له من عصمته في قوله والله يعصمك من الناس وفي (كشف الأسرار).فإن قيل: ما الحكمة في نفوذ السحر وغلبته في النبي عليه السلام، ولماذا لم يرد الله كيد الكائد إلى نرحه بإبطال مكره وسحره قلنا الحكمة فيه الدلالة على صدق رسول الله عليه السلام، وصحة معجزاته وكذب من نسبه إلى السحر والكهانة لأن سحر الساحر عمل فيه حتى التبس عليه بعض الأمر واعتراه نواع من الوجع ولم يعلم النبي عليه السلام بذلك حتى دعا ربه ثم دعا فأجابه الله وبين له ره ولو كان ما يظهر من المعجزات الخارقة للعادات من باب السحر على ما زعم أعداوؤه لم يشتبه عليه ما عمل من السحر فيه ولتوصل إلى دفعه من عنده وهذا بحمد الله من أقوى البراهين على نبوته وإنما أخبر النبي عليه السلام، عائشة رضي الله عنها من بين نسائه بما كشف الله تعالى له من ر السحر لأنه عليه السلام كان مأخوذًا عن عائشة رضي الله عنها، في هذا السحر على ما روى يحيى بن يعمر قال حبس رسول الله عليه السلام، عن عائشة فبينما هو نائم أو بين النوم واليقظة إذا أتاه ملكان جلس أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه فهذا يقول للذي عند رأسه ما شكواه قال السحر، قال: من فعل به قال لبيد بن أعصم اليهودي قال فأين صنع السحر قال في بئر كذا قال فما دواؤه قال ينبعث إلى تلك البئر فينزح ماءها فإنه ينتهي إلى صخرة فإذا رآها فليقلعها فإن تحتها كوبة وهر كوز سقط عنقها وفي الكوبة وترفيه إحدى عشرة عقدة مغروزة بالأبر فيحرقها بالنار فيبرأ إن شاء الله تعالى فاستيقظ عليه السلام، وقد فهم ما قالا فبعث عليًا رضي الله عنه إلى آخر ما سبق وعن عائشة رضي الله عنها، قالت كان رسول الله عليه السلام، إذا اشتكى شيئًا من جسده قرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أحد} والمعوذتين في كفه اليمنى ومسح بها المكان الذي يشتكي وفيه إشارة إلى الهواجس النفسانية والخواطر الشيطانية النفاثات الساحرات في عقد عقائد القلوب الصافية الظاهرة أخباث السيئات العقلية وألواث الشكوك الوهمية والعياذ بالله منها {ومن شر حاسد إذا حسد} بالوقف ثم يكبر لأن الوصل لا يخلو من الإيهام أي إذا أظهر ما في نفسه من الحسد وعمل بمقتضاه ترتيب مقدمات الشر ومبادي الأضرار بالمحسود قولا أو فعلًا والتقييد بذلك لما أن ضرر الحسد قبله إنما يحيق بالحاسد لا غير وفي (الكشاف).فإن قلت: فلم عرف بعض المستعاذ منه ونكر بعضه قلت عرف النفاثات لأن كل نفاثة شريرة ونكر غاسق لأن كل غاسق لا يكون فيه الشر إنما يكون في بعض دون بعض وكذلك كل حاسد لا يضر ورب حسد محمود وهو الحسد في الخيرات ويجوز أن يراد بالحاسد قابيل لأنه حسد أخاه هابيل والحسد الأسف على الخير عند الغير وفي (فتح الرحمن) تمنى زوال النعمة عن مستحقها سواء كانت نعمة دين أو دنيا وفي الحديث المؤمن يغبط والمنافق يحسد وعنه عليه السلام الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب وأول ذنب عصى الله به في السماء حسد إبليس لآدم فأخرجه من الجنة فطرد وصار شيطانًا رجيمًا وفي الأرض قابيل لأخيه هابيل فقتله قال الحسين بن الفضل رحمه الله، ذكر الله الشرور في هذه السورة ثم ختمها بالحسد ليظهر إنه أخبث الطبائع كما قال ابن عباس رضي الله عنهما.وفيه إشارة إلى حسد النفس الأمارة إذا حسدت القلب وأرادت أن تطفئ نور وتوقعه في التلوين وكفران النعمة الذي هو سبب لزوالها وفي الحديث أن النبي عليه السلام قال لعتبة بن عامر رضي الله عنه ألم تر آيات أنزلت هذه الليلة لم ير مثلهن قط {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} و{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} قوله: ألم تر كلمة تعجب وما بعدها بيان لسبب التعجب يعني لم يوجد آيات كلهن تعويذ غير هاتين السورتين وهما قل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس وفي الحديث دليل على أنهما من القرآن ورد على من نسب إلى ابن مسعود رضي الله عنه إنهما ليستا منه وفي عين المعاني الصحيح إنهما من القرآن إلا أنهما لمتثبتا في مصحفه للأمن من نستانهما لأنهما تجريان على لسان كل إنسان انتهى.اعلم أن مصحف عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، حذف منه أم الكتاب والمعوذتان ومصحف أبي بن كعب رضي الله عنه، زيد فيه سورة القنوت ومصحف زيد بن ثابت رضي الله عنه كان سليمًا من ذلك فكان كل من مصحفي ابن مسعود أبي منسوخًا ومصحف زيد معمولًا به وذلك لأنه عليه السلام، كان يعرض القرآن على جبريل عليه السلام في كل شهر رمضان مرة واحدة فلما كان العام الذي قبض فيه عرضه مرتين وكان قراءة زيد من آخر العرض دون قراءة أبي وابن مسعود رضي الله عنهما وتوفي عليه السلام وهو يقرأ على ما في مصحف زيد ويصلى به قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه جميع سور القرآن مائة واثنتا عشرة سورة قال الفقيه في البستان إنما قال إنها مائة واثنتا عشرة سورة لأنه كان لا يعد المعوذتين من القرآن وكان لا يكتبهما في مصحفه ويقول إنهما منزلتان من السماء وهما من كلام رب العالمين ولكن النبي عليه السلام كان يرقى ويعوذ بهما فاشتبه عليه إنهما من القرآن أو ليستا منه فلم يكتبهما في المصحف وقال مجاهد جميع سور القرآن مائة وثلاث عشرة سورة وإنما قال ذلك لأنه كان يعد الأنفال والتوبة سورة واحدة، وقال أبي بن كعب رضي الله عنه، جميع سور القرآن مائة وست عشرة سورة وإنما قال ذلك لأنه كان يعد القنوت سورتين أحداهما من قوله اللهم إنا نستعينك إلى قوله من يفجرك والثانية من قوله اللهم إياك نعبد إلى قوله ملحق وقال زيد بن ثابت رضي الله عنه جميع سور القرآن مائة وأربع عشرة سورة وهذا قول عامة الصحابة رضي الله عنهم وهكذا في مصحف الإمام عثمان بن عفان رضي الله عنه وفي مصاحب أهل الأمصار فالمعوذتان سورتان من القرآن روى أبو معاوية عن عثمان بن واقد قال أرسلني أبي إلى محمد بن المنكدر وسأله عن المعوذتين اهما من كتاب الله قال من لم يزعم أنهما من كتاب الله فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين وفي نصاب الاحتساب لو أنكر آية من القرآن سوى المعوذتين يكفر انتهى.وفي الأكمل عن سفيان بن سختان من قال إن المعوذتين ليستا من القرآن لم يكفر لتأويل ابن مسعود رضي الله عنه، كما في المغرب للمطرزي وقال في هدية المهديين وفي إنكار قرآنية المعوذتين اختلاف المشايخ والصحيح إنه كفر انتهى. اهـ.
|